صحيفة الرؤية الكويتيه الاثنين 19 أكتوبر 2009 نكتشفهم
بعد رحيلهم! – فهمي هويديhttp://fahmyhoweidy.blogspot.com/2009/10/blog-post_18.html
طوال الأسبوع الماضي حفلت الصحف المصرية بالمقالات التي أشادت بزميلنا الدكتور محمد السيد سعيد مبرزة نضاله كشخص نبيل، ومثقف من طراز رفيع، ووطني شريف انحاز دائما إلى هموم وطنه وأمته، والرجل يستحق ذلك كله لا ريب، لكن السؤال الذي شغلني وأنا أتابع تلك الكتابات هو: لماذا يكتشف الشرفاء في بلادنا وترتفع أسهمهم بعد وفاتهم؟
ذلك حدث أيضا مع الراحلين محمود عوض وصلاح الدين حافظ والدكتور أحمد عبدالله رزه، والدكتور عبدالوهاب المسيري ومحمد سيد أحمد، ومجدي مهنا ومحمود المراغي وعادل حسين وعبدالله إمام.
وجميعهم مثقفون وطنيون ما إن مات الواحد منهم حتى انبرت صحفنا مشيدة بهم ومسلطة الأضواء على مكانتهم الرفيعة ومواقعهم الشريفة وعطائهم الكبير، والفراغ الذي خلفوه في حياتنا الثقافية بعد رحيلهم.لست أشك في أن أمثالهم كثيرون في المحيط الثقافي وفي مختلف مجالات العمل العام، لكنني ذكرت تلك الأسماء ليس فقط لأنني أعرفها جيدا بحكم زمالة المهنة أو الصداقة الشخصية،ولكن أيضا لأن النماذج التي ذكرتها حظيت باهتمام مشهود من جانب وسائل الإعلام، إضافة إلى أن أغلبهم انتسبوا إلى مؤسسات صحافية فتحت صفحاتها بعد وفاتهم لتقريظهم والإشادة بمناقبهم وفضائلهم.في الوقت ذاته فإن تلك النماذج توافرت لها قواسم مشتركة تؤيد ظاهرة الاكتشاف المتأخر للشرفاء في البلد، التي استلفتت نظري، ووجدت أنها جديرة بالملاحظة والإثبات.
لقد اشترك هؤلاء وأمثالهم في كونهم يتقاسمون حقا النزاهة والاستقامة المهنية والاستقلال في الرأي والانحياز إلى القيم الوطنية والشريفة.
لكنهم تقاسموا شيئا آخر، هو أنهم دفعوا غاليا ثمن مواقفهم ونزاهتهم. فمنهم من اعتقل وأهين في السجون. ومنهم من عانى من المرض وعجز عن أن يدبر نفقات علاجه، ومنهم من عاش فقيرا ومات فقيرا، وعانى أبناؤه من الفاقة بعد مماته.
الأمر الذي يعني أن حظوظهم بعد الرحيل كانت أفضل كثيرا من حظوظهم عندما كانوا على قيد الحياة.إذا قارنت حظوظ أولئك الشرفاء قبل الرحيل بحظوظ أقرانهم من الأحياء المنافقين والمهرجين والمصفقين وماسحي أحذية السلطة وبلاطها، فستدرك مدى شعور الأولين بالحسرة والأسى ليس لحالهم فقط، ولكن لحال البلد أيضا.ولك أن تتصور هذا الشعور حين تجد أن الشرفاء يعانون وينكل بهم في أرزاقهم وأحلامهم، في حين يكافأ المنافقون والأفاقون بالعطايا والمزايا والمناصب. وحين تجد أن الناس يكبرون في المقام كلما صغروا في مراتب الاستقامة والشرف. ويزدادون ثراء كلما صاروا أكثر انكسارا وذلا، ويقتربون من الصدارات كلما ابتعدوا عن ضمائرهم وتخلوا عن قيمهم ومبادئهم.في أكثر من مقام ومناسبة قلت إننا في زمن صارت الاستقامة فيه، مجرد الاستقامة، نقيصة يعاتب عليها المرء ويجد من يسخر منه بسببها ويتهمه بالخيبة وقصر النظر.أما المواقف الشريفة خصوصا إذا تعلقت بالكرامة المهنية أو الوطنية، فقد أصبحت باهظة التكلفة. وعلى من يريد أن يكون شريفا أن يكون مستعدا لدفع ثمن مواقفه، من رزقه أو تطلعاته أو من حريته وربما مستقبل أسرته أيضا.
إن التكريم الذي لقيه الدكتور محمد السيد سعيد بعد وفاته، لم يكن لينال عشر معشاره لو أنه استمر على قيد الحياة. وهو من دخل السجن وعذب حينا من الدهر، وتضاعفت عذاباته حينما حل به المرض، إلى أن عولج على نفقة الحكومة الفرنسية في نهاية المطاف.
والشرفاء من أمثاله، الذين ذكرت بعضهم مروا بنفس التجربة، ودفعوا فاتورة مواقفهم النبيلة بصورة أو بأخرى.صحيح أن تكريمهم بعد الوفاة خير من إنكارهم وتهميشهم طوال الوقت، لكني لا أخفي شكا في دوافع بعض الذين سارعوا إلى ذلك التكريم، ممن لم يكتبوا ما كتبوه تقديرا لنبل الرجل ومكانته، وإنما ابتهاجا برحيله لأن مجرد وجوده يسبب إحراجا لهم ويفضح قبح مواقفهم..........
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق