السبت، سبتمبر 06، 2008

القضية التي وضعت القضاء المصري أمام المحك الصعب

كانت النية معقودة على تناول حالة الدولة ودور عائلة مبارك المتعمد في انهيارها، والبحث فيما آلت إليه أحوال السلطة والنظام السياسي والدولة، وجاءت مفاجأة إحالة أحد أباطرة المال والسياسة إلى محكمة الجنايات بتهمة قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم. جاءت لتعطي الأولوية للتعرف على ملابسات هذه الإحالة. فالقضية تخص شخصا مقربا إلى 'البيت الحاكم'، ليس بالانتساب العادي للسلطة إنما لقرابته اللصيقة بالسيدة سوزان مبارك، وهو في مقام إبن الخالة لعلاء وجمال مبارك، وتعززت القرابة بالشراكة الواسعة في السلطة والثروة والإفساد.
بشكل أهله لاحتلال المرتبة الثالثة في لجنة جمال مبارك (لجنة السياسات)، صاحبة القول الفصل وذات الدور الاخطبوطي الممتد في كل المجالات، ودُفع به لشغل منصب وكيل اللجنة الاقتصادية في مجلس الشورى، وتمكين أخيه طارق من رئاسة لجنة الإسكان بمجلس الشعب، والمتهم شريك الأمير الوليد بن طلال في مشروعاته الفندقية والسياحية، ومنافس لشخصيات إماراتية متنفذة، منها ما اعتبر جريمة القتل موجهة لهم بسبب كفالتهم توفير الحماية للمجني عليها عندما استجارت بهم، وهذا ما يجعل دوي هذه الجريمة يملأ الآفاق، وقد تقضي على آخر أطلال حكم 'عائلة مبارك'، وهي قضية لا تصنف ضمن قضايا المال والجنس فحسب بل تسجل في التاريخ في أحط صورة للسياسة، وتعكس ما أصاب عصب الدولة المصرية من عطب، بفعل الإفساد المتبادل بين السياسة والمال والنساء.
هناك نساء كن وراء نهب المصارف، ومن يسترجع ما جرى لبنكي قناة السويس والقاهرة يتأكد من ذلك، وتخريب الزراعة واستيراد المبيدات المسرطنة على يد مستشار يوسف والي وزير الزراعة الأسبق كان الشريك الأصيل فيها إمرأة، وجريمة أيمن السويدي أحد أباطرة الكابلات الكهربائية الذي قتل الفنانة التونسية ذكرى وقتل نفسه كانت بسبب الغيرة، وحسام أبو الفتوح دفع ثمن تحديه لشخصية رئاسية في علاقته بزوجة جميلة وثرية لملياردير منافس، وقد لا نراه طليقا مرة أخرى. هذه سمات انحطاط وفجور طبعت الحياة السياسية المصرية. وهذه الجريمة أحاطت بها ظلال عكستها صراعات المتهم مع امبراطور الحديد وزميله في لجنة جمال مبارك، والذراع الأيمن لابن الرئيس، وممول الحملات الدعائية وغير الدعائية للأب والابن والزوجة، فحين رفع أسعار حديد التسليح، لم يضع في اعتباره مشروعات زميله وزيادة تكلفتها، وظلال علاقته بشركة إعمار الإماراتية وصراعهما على الأراضي المميزة والمشاريع السكنية العملاقة وأشياء أخرى! وعقدة هذه الجريمة أنها تمت خارج مصر، ولو تمت داخلها لكان هناك كلام آخر، والإعلان عنها مع حرق مجلس الشورى، ووسط رأي عام معبأ ضد ممارسات الدولة بكل ما تفعل. استوجب إحالة القضية إلى محكمة الجنايات. امتصاصا للغضب وطلبا للوقت، فطول الإجراءات يساعد في ترتيب الأوراق، ويتيح الفرصة للتصرف والبحث عن حلول. بجانب أن التقدير الخاص لدولة الإمارات لدى الرأي العام يمنع تعامل السلطات معها بطرق البلطجة والابتزاز، فالمصريون يقدرون ما قامت به في بناء المدن الجديدة وفي سعيها لحل مشكلة الإسكان، ولا ينافسها في هذا المضمار إلا وزير التعمير والإسكان الأسبق، حسب الله الكفراوي، ومع أن جهودهما ضاعت سدى بسبب تغول 'عائلة مبارك' واندفاعها الشرس نحو امتلاك الثروات والحصول على الميزات والأموال والهبات والمعونات والعمولات، إلا أن هذا لم يغط على ما قدمه رئيس دولة الإمارات الراحل من أجل مصر والمصريين، ولا قلل من قدر الكفراوي. بعد أن استولى من لا يستحق على هذه المشروعات، وحرم منها من بنيت من أجلهم، وتحولت المدن والتجمعات العمرانية الجديدة إلى جزء من مشكلة اتساع الفجوة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، وأضحت مجالا للمضاربة وطريقا لكثير من نشاطات الكسب غير المشروع، وتذهب حصيلة بيعها إلى الجيوب المتخمة.
تحولت القضية إلى محكمة الجنايات تحسبا لتداعياتها. وعلى الجانب الآخر فاجأت كفاءة سلطات أمن دبي المتهمين ووضعت السلطات المصرية في حرج.. تعرفت على المتهم الأول بسرعة، وجمعت الخيوط المتعلقة بالمتهم الثاني، وكشفت عن شخصه، كضابط سابق في جهاز أمن الدولة الرهيب، وعمله الحالي كمدير للأمن في فندق مملوك لهشام طلعت مصطفى وللوليد بن طلال، في شرم الشيخ، ولنتوقف أمام ملف نشرته صحيفة الفجر المصرية في 18/ 8/ 2008، عن فساد ضابط أمن دولة محترف. تكلف تدريبه أكثر من خمسة ملايين جنيه لمواجهة الإرهابيين.. سافر أكثر من بعثة إلى الولايات المتحدة للتمرين على إطلاق النار بأسرع من خصومه، ووصف الملف الضابط بالقوة العضلية غير العادية، لكنها، على حد الوصف، بلا ضمير ولا تخضع لقانون. وقد أنتُدب للعمل في طاقم حراسة وزير (من وزراء الخدمات) - تم وضع هذا الوصف بين قوسين لأنه على ما يبدو وصف غير حقيقي لتفادي وقوع الصحيفة تحت طائلة القانون إذا ما ذكرت أنه كان وزيراً لوزارة سيادية، - ومنذ اليوم الأول أقام الضابط علاقة مع ابن الوزير، الطالب في الجامعة الأمريكية، وسيطر عليه بالمخدرات. وهيأ له المكان، وشجعه في توسيع علاقاته، لتضم شلة ابن الوزير كاملة، وبدأ يحصل على عمولة مناسبة من تجار المخدرات، وزادت حصيلة العمولة مع الانتقال من الحشيش إلى الكوكايين، وكانت الشلة تستهلك ما قيمته مئة ألف جنيه في الاسبوع. ونصيب الضابط منها 10 ' كعمولة، ثم أضاف الشقق والفنادق إلى نشاطه، وفرد شباكه لاصطياد أخت الوزير وتزوجها، وكانت أرباحه الاسبوعية مئة ألف جنيه، وبدأ ابن الوزير يعتمد عليه، واستعان به وقدم له بعضا من مجوهرات والدته للانتقام من زميل خطف منه فتاته، فشوه وجه الفتاة، التي لم تسكت فهي الأخرى ابنة وزير، وما كان إلا أن طلب من ابن الوزير استدراجها إلى طريق الواحات، وتم تخديرها وإلقاؤها أمام سيارة مسروقة قادها الضابط بسرعة جنونية، وما حدث للفتاة مكن الأمن من الإمساك بأول خيط لكشف حقيقة الضابط. وبدلا من المحاكمة تمت التغطية على الفضيحة وطُلِب منه تقديم استقالته ففعل، وبعد تغيير الوزير طلق اخته وأبلغ عن ابنه ليضبط بكوكايين يحمله إلى أصحابه، ويشير الملف إلى نقلة أخرى حدثت للضابط ارتبطت بتراجع دور السياسيين وبدء حكم رجال الأعمال.. عرض خدماته على أكثرهم ثراء وقوة، فما زالت جاذبيته وعضلاته المفتولة تغري أي ملياردير ليكون حارسه ويده الباطشة حين يشاء. هذا ما حدث، وقامت علاقة بين ضابط أمن الدولة السابق والملياردير. ولم يشر الملف إلى الضابط ولا للملياردير، ولم تفصح الصحيفة عن مغزى النشر في وقت يتابع فيه الرأي العام فصول الجريمة.
المهم أن التحقيقات ازاحت الستار عن خطة أعدت لقتل سوزان تميم في لندن. بدهسها بسيارة أثناء نزولها من منزلها، أو إلقائها من شرفة شقتها، وورد هذا في 'الأهرام' أول أمس. والدهس على غرار ما حدث لابنة الوزير بطريق الواحات، ويبدو أن الرمي من الشرفات أسلوب تلجأ إليه عناصر وجهات متنفذة للتخلص من ضحاياها في بريطانيا، هذا ما حدث مع قائد الحرس الجمهوري الأسبق الليثي ناصف، والفنانة سعاد حسني، وأخيرا مع أشرف مروان العام الماضي، وتمسك السلطات المصرية بمحاكمة المتهمين ضروري، للتحكم في أقوال الضابط، بعد أن ورد على لسانه أنه رجل الدولة المعتمد، وكان مخلصا للحكم والدولة خلال عمله بأمن الدولة، وخدم الحكومة كثيرا، وأن ما قام به كان من أجل كرامة مصر، لأن المجني عليها ارتكبت جرائم مروعة بحق من حماها، وأرادت الزواج من هشام مصطفى دون مبرر، وهذا يتناقض مع ما نشر حول نية هشام زواج المجني عليها ورفض والدته للفكرة، لهذا تركته وسافرت.
ونسب الضابط إلى هشام استشارته لشخصيات نافذة في البلد، والبراءة ممكنة فرجال الأْعمال هم الذين يشرعون ويحكمون ويرهبون القضاء، والمبرر قدمه المستشار عادل السعيد النائب العام المساعد: 'وفقا لقانون الإجراءات الجنائية فإن أي مصري يرتكب أي جريمة في الخارج ويعود إلى البلاد تختص السلطات القضائية بمحاكمته في مصر بشرط أن تكون الواقعة معاقبا عليها في مكان حدوثها'، ولنتوقف معا أمام أبرياء سلمتهم السلطات لبلدان أخرى لمحاكتهم فيها، خاصة الولايات المتحدة، وأنابت عنها من عذبهم للحصول على اعترافات تقدم إدانة لمواطنيها، وحين يكون المتهم 'سوبر' ممن تجري في عروقهم عصارة المال والسلطة والنفوذ فلا يُسلم. فبراءته مضمونة وسبق وحصل عليها من هم أقل منه.. ممدوح اسماعيل وهاني سرور، وهو بالنسبة لـ'عائلة مبارك' واحد منها فهل تتخلى عنه؟ ومن المتوقع أن يعْدِل المتهم الأول عن أقواله، والعهدة على صحيفة 'الجريدة' الكويتية نشرت أن مخاوف مسؤولي شرطة دبي 'ناجمة عن تسريبات أمنية وردت من القاهرة تزعم أن المتهم قد عَدَل عن أقواله الأولى بأنه قام بالجريمة لصالح شخصية مرموقة، وأكد في اعترافات جديدة أنه قام بالقتل بدوافع شخصية محضة وأنه لم يُستأجر ولم يكلف من أي شخص بتنفيذ الجريمة لقاء أجر مادي وأنه قتلها بنفسه لحساب نفسه'! أو يخلى سبيله لعدم سلامة الإجراءات، أو ظهور من 'يشيل' القضية، حسب الأسلوب المتبع في تجارة المخدرات. يتقدم أحد صبيان التاجر معترفا بجريمة لم يرتكبها، مقابل مبلغ مغر ورعاية للأسرة والأولاد! وإذا لم يفلح كل هذه هناك باب آخر لغلق الملف وهو 'الانتحار'، وفعلا تسربت معلومات عن محاولة قام بها لقتل نفسه، ومنذ سنوات قتلت يد آثمة الشهيد سليمان خاطر.
بعد ساعات من لقائه مع مكرم محمد أحمد، نقيب الصحافيين المصريين الحالي، وخرج البيان الرسمي معلنا انتحاره. أليست هذه هي أساليب عصابات الجريمة المنظمة؟.. إنها مافيا لن تضع 'عائلة مبارك' على المحك، فقد اختبرت وانتهى الأمر، والمشكلة هي في أن القضاء المصري هو الذي وُضع على المحك، فاللهم لطفك!
' كاتب من مصر يقيم في لندن :
محمد عبد الحكم دياب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق