الجمعة، يوليو 01، 2011

أمريكا ضــــــد الحــــــــد الأدنى للأجـــــــــــــــــــــر

وائل جمال " أصل الخــــــــــــــبر جريدة الشروق "

على مدى سنوات، دعمت الولايات المتحدة أولوية القطاع الخاص وعملت عن قرب مع نخبة الأعمال دفاعا عن أجندة مشتركة تبدأ ولا تنتهي بالتجارة الحرة وخصخصة الشركات والمصانع والمؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة.

"إن الحكومة الأمريكية تعمل مع الحكومة والشركاء الدوليين من أجل المساعدة على خلق الوظائف، ومساندة النمو الاقتصادي، ودفع الاستثمار الأجنبي المباشر الذي يتوافق مع معايير منظمة العمل الدولية الخاصة بالعمال في الصناعة والموجه للزراعة وغيرها"، هكذا ردت وزارة الخارجية الأمريكية على مجلة "ذي نيشن"، التي نشرت قبل أيام ملخصات ل 1918 وثيقة تعود لدبلوماسييها في جزيرة هايتي الواقعة في الكاريبي بالتعاون مع موقع ويكليكس وجريدة هايتي الحرة. تكشف هذه البرقيات المسربة عن تنسيق أمريكي واسع مع بعض رجال الأعمال والمستثمرين الصناعيين من أجل مواجهة الضغوط الشعبية الواسعة لرفع الحد الأدنى للأجر.

حكاية هايتي مع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية

على مدى ربع قرن، شكلت حركة شعبية واسعة من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية الحياة السياسية في هايتي، التي تمتلك تاريخا مظفرا بحرب استقلال بطولية ونضال ناجح ضد العبودية في القرن الثامن عشر. في فبراير 1986 أسقطت انتفاضة جماهيرية ديكتاتورية 29 عاما من حكم جون كلود دوفالييه وأسرته، اضطر بعدها للهرب خارج البلاد، لكن النخبة الغنية المستفيدة ظلت دون أن تُمَس مما مكنها من خوض مواجهة عنيفة ، بدعم أمريكي وبتنسيق مع الجيش، ضد التغيير لتحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية.

استخدم هذا التحالف كل خدعة متاحة بداية بفرق الموت إلى إثارة الفوضى. وأفسد محاولة لعقد الانتخابات في 1987 ثم عقد هو انتخابات وهمية قاطعها الجميع بعدها بعام. حتى تمكنت الحركة الجماهيرية في 1990 من عقد انتخابات ديمقراطية جاءت بالقس الكاثوليكي التحرري جون برتراند أريستيد للحكم بأغلبية 67% على حساب مارك بازين، وهومسئول سابق بالبنك الدولي، نال تأييد واشنطن.

استأنفت نخبة الثروة حكم الشعب بالتحريض على انقلاب عسكري في سبتمبر 1991 شارك فيه الجيش مع الشرطة. وتم نفي الرئيس المنتخب وتأسيس حكم بالحديد والنار دام 3 سنوات. لكن المقاومة الشعبية استمرت بالإضرابات والمظاهرات والاعتصامات. وصارت هايتي غير قابلة للحكم خاصة بعد أن فاض اللاجئون على سواحل أمريكا مهددين بالتسرب إليها. فراهن الرئيس كلينتون وقتها على إعادة أريستيد كواجهة للاستمرار في السياسات الاقتصادية النيوليبرالية بينما تدخلت الأمم المتحدة بقواتها لضمان الأمن في البلاد (شارك في العملية 22 ألف جندي أمريكي). لكن أريستيد المدعوم بحركة الناس لم يستكن، ورفض ضغوط الخصخصة ودافع عن سياسات اقتصادية تستهدف إعادة توزيع ثروة البلاد لصالح الفقراء. سيطر حزب أريستيد على البرلمان بتصويت الناس ليبدأ تنفيذ برنامج للاستثمار في البشر دشن عددا كبيرا من المشروعات تستهدف نوعا من العدالة الاجتماعية.

قاد هذا الوضع إلى إنقلاب عسكري جديد قامت به القوات الأمريكية هذه المرة وطردت أريستيد وزوجته إلى المنفى في أفريقيا. بينما احتلت قوات فرنسية وكندية وأمريكية مواقع استراتيجية بطول وعرض البلاد. تم تنصيب عدد من الحكومات الضعيفة فاقدة الشرعية الموالية لأجندة تحرير الأسواق إلى أن أقيمت انتخابات جديدة جاءت برينيه بريفال، الذي كان رئيس وزراء لأريستيد، على خلفية استمرار الحركة الاجتماعية الشعبية التي لا تيأس. غير أن البلاد صارت عرضة لسلسلة من الكوارث الطبيعية دمرت مدنها.

3 دولارات تكفي

في يونيو 2009 مرر البرلمان في هايتي قانونا بالاجماع يقضي بأن يكون الحد الأدنى للأجر 5 دولارات يوميا، وذلك تحت ضغط انتفاضة شعبية جديدة سميت باحتجاجات جوع كلوروكس بسبب ما يسببه الجوع من ألم في المعدة شبيه بأثر مبيض الملابس الشهير. لكن أصحاب مصانع الملابس الجاهزة التي تصدر للولايات المتحدة رفضوا القانون وقالوا إنهم لن يدفعوا سوى 3 دولارات فقط ، وأيدتهم في ذلك وكالة المعونة الأمريكية والسفارة.

وبعدها بشهرين، وصل بريفال لاتفاق يستثني صناعة المنسوجات، التي تصدر لأمريكا باتفاق شبيه بالكويز من حيث المزايا الضريبية والجمركية من دفع ال5 دولارات يوميا على أن يدفع مستثمرو الملابس الجاهزة 3 دولارات فقط. وتقول دراسة تمت بالتنسيق مع برنامج الغذاء العالمي إن ثلث سكان هايتي يعانون من عدم الأمن الغذائي بينما تشير دراسة أخرى إلى أن حد الكفاف لأسرة من 3 بعائل وحيد هو مالا يقل عن 12.5 دولار في اليوم. لكن الوضع لم يعجب الأمريكيين، الذين تكشف وثائق ويكيليكس، التي نشرتها "ذي نيشين" نسقوا بشكل مستمر مع جزء من نخبة الأعمال لاسقاط القانون. وتظهر البرقيات أن السفارة الأمريكية كانت واعية تماما بشعبية القرار وبأن بعض رجال الأعمال كانوا يؤيدونه. لكنها وقفت بشدة مع تلك المجموعة التي سيطرت على المناطق الاقتصادية التي ُسميت "التجميع صفر"، والتي لطالما أيدتها واشنطن عبر صفقات تحرير تجاري ودعم مالي. بل إن برقيات ويكيليكس تؤكد أن الولايات المتحدة سمحت لرجال الأعمال بتسليح غير رسمي لقوات الشرطة المحلية مما حولها إلى "جيش خاص يعمل لصالحها".

وبينما راقبت واشنطن المظاهرات المؤيدة للحد الأدنى للأجر، تقول البرقيات المسربة إن القلق الوحيد كان سياسيا من توسعها وامتدادها للإطاحة بالتوازن الهش الموجود. بينما تم استخدام قوات الأمم المتحدة مرة أخرى لقمع مظاهرات طلابية تطالب بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي.

"في كل مرة كانت قضية الحد الأدنى للأجر تطرح أو تناقش كانت نخبة الأعمال المدعومة بدراسات وكالة المعونة الأمريكية تقفز محذرة الحكومة :الذئب الذئب – رفع الحد الأدنى سيعني إغلاق المصانع حتما وزيادة عدد العاطلين. وفي كل مرة كان ذلك كذبا"، كما يقول منبر هايتي لبدائل التنمية في بيان صحفي في يونيو 2009.

تحول منظم ومقَيَّد

يستخدم أدم هنية، الباحث والأستاذ بكلية الدراسات الشرقية والأفريقية بجامعة لندن، ذلك التعبير الذي استخدمته وزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون، في بدايات الثورة المصرية للتأكيد على نقل منظم للسلطة Orderly Transition من مبارك لعمر سليمان، لوصف الاستراتيجية التي تجمع بين مؤسسات الاقتصاد العالمي وبعض نخب الأعمال المصرية. فمثلا تقوم حزم المساعدات التي عرضتها مجموعة الثمانية وصندوق النقد والبنك الدوليان، على نفس القواعد القديمة. حقيقي أنها تقر بضرورة خلق الوظائف والاستثمار في البنية الأساسية بل والتعامل مع قضية الفقر، لكنها في الوقت نفسه تشترط "الاستقرار المالي" مؤكدة على قاعدة تحجيم الانفاق الاجتماعي لعدم مفاقمة عجز الموازنة (قاعدة ذهبية في وصفة تحرير الأسواق لا يتم التغاضي عنها إلا في حالة الانفاق لدعم الشركات الكبرى).

ورغم أن الاقتراض من هذه المؤسسات صار محل مراجعة في الأيام الأخيرة، لكن هاهي موازنتنا الجديدة تفقد في أيام 27 مليار جنيه لأجل عيون العجز وبعد ضغوط من عالم المال والأعمال. وهاهو التصريح وراء التصريح بأنه لا تراجع عن سياسات السوق الحرة، من مسئولي حكومة لا تتمتع بشرعية التمثيل الانتخابي لأغلبية من المصريين أدلت برأيها في النظام الاقتصادي عبر ثورة.

وكما قال أهل بلدنا بوضوح، لا تشوبه شائبة، كلمتهم في النقل المنظم للسلطة على مستوى السياسة فقد حان موعد الثورة مع عالم الاقتصاد. إذ أن ذلك "التحول المنظم المقيد"، الذي يبقي الميزان المعيوب مائلا لحساب القلة، لا يستقيم مع طموحاتنا لحرية غير منتقصة في رأينا وفي رزقنا. ولنا في هايتي الدرس والعبرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق